يُعد انتخاب دونالد ترامب حدثا حاسما في أزمة الديمقراطية الأمريكية التي طال أمدها، والتي ستكون تداعياتها المدمرة محسوسة في جميع أنحاء العالم. لقد فاز الديماغوجي الفاشي، - الذي حاول في يناير/ كانون الثاني 2021 الإطاحة بالانتخابات الرئاسية الأخيرة بعنف، بشكل حاسم في انتخابات 2024 بأغلبية الأصوات الانتخابية والشعبية. وسيُعاد تنصيبه في البيت الأبيض خلال ما يزيد قليلاً عن 70 يوماً.
يدين ترامب بانتصاره السياسي إلى إفلاس الحزب الديمقراطي، الذي ركز على سياسات هوية الطبقة المتوسطة الغنية، ولامبالاة متعجرفة بالتأثير المدمر للتضخم على مستويات معيشة العمال، ودعمه المستمر للحرب في أوكرانيا والإبادة الجماعية في غزة وهذا مهد الطريق لكارثة الانتخابات.
وتحاول الركائز الأساسية للصحافة الرأسمالية بالفعل التقليل من أهمية العواقب السياسية المترتبة على فوز ترامب. كتبت صحيفة نيويورك تايمز: 'يشكل انتخاب ترامب تهديداً خطيراً، لكنه لن يحدد مصير الديمقراطية الأمريكية على المدى الطويل'. طمأنت صحيفة التايمز قراءها بأن ترامب سيكون رئيساً في مرحلة بطة عرجاء لأن الدستور يمنعه من الترشح لولاية أخرى.
هذا تفكير قائم على أماني إذ أعلن ترامب صراحة أن هذه ستكون الانتخابات الأخيرة، وأن أنصاره لن يضطروا إلى التصويت مرة أخرى. الواقع السياسي هو أن انتخاب ترامب يمهد الطريق لموجة غير مسبوقة من الثورة الاجتماعية المضادة، والتي خطط ترامب لفرضها بكعب حديدي.
وتعهد ترامب بأن يصبح 'ديكتاتوراً' وأن ينشر الجيش لسحق 'العدو في الداخل'. وهو يخطط لترحيل 11 مليون مهاجر غير شرعي، وهي عملية تتطلب وضع المدن الأمريكية الكبرى تحت الأحكام العرفية. لقد طرح إلغاء ضريبة الدخل ووعد بخفض الضرائب على الأغنياء وإنهاء لوائح الشركات. ولا يمكن المبالغة في تقدير التأثير المدمر الذي ستحدثه هذه السياسات على الطبقة العاملة.
فهو ليس حدثاً سياسياً. ومع ذلك، فقد تم تحقيقه، وهذا لا يقلل من التواطؤ السياسي للحزب الديمقراطي فإن وصول إدارة ترامب الثانية إلى السلطة يمثل إعادة تنظيم عنيفة للبنية الفوقية السياسية الأمريكية لتتوافق مع العلاقات الاجتماعية الحقيقية القائمة في الولايات المتحدة.
لا يتحدث دونالد ترامب كفرد مجرم فحسب، بل كممثل للأوليغارشية الرأسمالية القوية التي تشكلت على مدى العقود الثلاثة إلى الأربعة الماضية. استخدم أصحاب الملايين والمليارديرات الضخمة، بقيادة أمثال إيلون ماسك، وجيف بيزوس، وبيتر ثيل، ولاري إليسون، ترامب لإحداث إعادة هيكلة رجعية للمجتمع الأمريكي لصالحهم. وسوف يستخدمون الوقت الذي يسبق تنصيب ترامب في العشرين من يناير/كانون الثاني لإعداد وابل من الإجراءات القمعية والرجعية الاجتماعية التي سيتم إطلاقها بمجرد وصول ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض.
كان ترامب قادراً على استغلال غياب أي تعبير داخل المؤسسة السياسية عن مصالح الغالبية العظمى من السكان. عارضت حملة هاريس تقديم أي نداء اجتماعي للطبقة العاملة. هي عرضت حملتها على الناخبين الأكثر ثراء، وشجعت دعاة الحرب المكروهين مثل ليز تشيني، ووعدت بوضع الجمهوريين في مجلس الوزراء.
سافرت هاريس وباراك أوباما وغيرهم من الوكلاء الديمقراطيين في جميع أنحاء البلاد لإبلاغ الناخبين بأن الفشل في التصويت لصالح هاريس سيكون دليلاً على كراهية النساء أو العنصرية. لقد جمعوا بين النداءات المتواصلة للهوية العرقية والجنسانية مع التأييد الكامل للحرب في الخارج. وتعهد الديمقراطيون بمزيد من الدعم لهجوم الإبادة الجماعية الإسرائيلي على غزة، ودعوا إلى تصعيد الحرب بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا في أوكرانيا.
ولم يقدم الديمقراطيون أي شيء لمعالجة الأزمة الاجتماعية المتصاعدة في الولايات المتحدة، بل قدموا بدلاً من ذلك فكرة أن البلاد ا 'على المسار الصحيح' في نظر السكان الذين يعتقدون بالإجماع تقريباً العكس. قدمت شخصيات مثل بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو كورتيز الكذبة السخيفة القائلة بأن إدارة بايدن هاريس قامت بتحسين ظروف العمال وأن هاريس ستتحدى هيمنة “طبقة المليارديرات”. وفي تقليد ادعاء هيلاري كلينتون في عام 2016 بأن الطبقة العاملة تتكون من 'سلة من البائسين'، وصف بايدن أنصار ترامب بـ'القمامة' في الأيام الأخيرة من الانتخابات.
لم يظهر إجمالي التصويت زيادة في دعم ترامب، الذي بدا أنه فقد أصواتاً مقارنة بمجموع الأصوات التي حصل عليها في عام 2020، ولكنها أظهرت انهياراً مذهلاً في دعم الديمقراطيين، حيث فازت هاريس بما تراوح بين 10 و 15 مليون صوت أقل من جو بايدن في عام 2020.
كان أداء هاريس أقل من أداء بايدن في كل منطقة من مناطق البلاد. إن الجهود التي بذلها الحزب الديمقراطي لاستمالة مختلف المجموعات العرقية والجندرية وراء حملة هاريس على أساس مناشدة الهوية باءت بالفشل تماما. وشهد ترامب أكبر زيادة في هوامش التصويت في المقاطعات التي أكثر من 50 بالمئة من السكان فيها من غير البيض، وأظهرت بيانات استطلاعات الرأي أن هاريس خسرت الرجال اللاتينيين على المستوى الوطني بهامش 54-44 بالمئة، وهو تراجع عن عام 2020، عندما فاز بايدن بهامش 59-39 بالمئة.
كما انخفض الهامش الذي فاز به الديمقراطيون من أصوات الناخبين الشباب بشكل كبير منذ عام 2020، حيث رفض عدد لا يحصى من الشباب التصويت للمرشح المتواطئ في الإبادة الجماعية في غزة. وفازت هاريس بأصغر الناخبين بنسبة 56-41 بالمئة فقط مقابل هامش بايدن 65-31 بالمئة. في حين فاز ترامب بأغلبية الأصوات بين الناخبين لأول مرة، في علامة على أن الديمقراطيين لم يتمكنوا من تنشيط الناخبين خارج الطبقة المتوسطة العليا الغنية.
في الواقع، تحسن أداء هاريس فقط بين الأثرياء. ومن بين الناخبين الذين بلغ دخلهم 200 ألف دولار أو أكثر، فازت بنسبة 52-44 في المئة، مما عكس فوز ترامب الضيق في تلك الفئة من الدخل في عام 2020. وفاز ترامب بالناخبين الذين تراوح دخلهم بين 100 ألف دولار و200 ألف دولار في عام 2020 بهامش 58-41 في المئة، ولكن فاز هاريس بنسبة 53-45 بالمئة. وشهد الديمقراطيون في الوقت نفسه انهياراً في دعم العمال، حيث خسرت هاريس أولئك الذين يكسبون ما بين 30 ألف دولار و100 ألف دولار، وهي شريحة واسعة من السكان فاز بها بايدن بهامش 57-43 بالمئة تقريباً في عام 2020.
وكان الدافع وراء تصويت الناخبين هو الغضب الاجتماعي العميق. ومن بين 43% من الناخبين الذين قالوا إنهم 'غير راضين' عن 'الطريقة التي تسير بها الأمور في البلاد اليوم'، فاز ترامب بنسبة 54-44%. ومن بين 29% الذين أجابوا بأنهم 'غاضبون'، حصل ترامب على 71% مقابل 27%. وقد فازت هاريس بنسبة 89-10% بين شريحة صغيرة من السكان 'المتحمسين' للظروف الاقتصادية والاجتماعية اليوم. وارتفعت النسبة الإجمالية للسكان الذين قالوا إن وضعهم المالي 'أسوأ' اليوم مقارنة بما كان عليه قبل أربع سنوات إلى أكثر من الضعف لتصل إلى 45%، مع فوز ترامب بهؤلاء الناخبين بهامش 80-17%.
ويدرك ترامب والجمهوريون جيداً أنهم سيحكمون برميل بارود اجتماعي، وأن السياسات اليمينية التي يخططون لتنفيذها لن تؤدي إلا إلى تعميق الغضب الاجتماعي. وتتمثل استراتيجيتهم في الجمع بين قمع الدولة البوليسية الهائل والحملة الفاشية لجعل المهاجرين كبش فداء لجميع الأمراض الاجتماعية. على الرغم من أن استطلاعات الرأي لا تشير إلى أن الناخبين قد انخدعوا بهجمات ترامب الدنيئة على المهاجرين، ورغم أن أغلبية كبيرة تقول إنهم يعتقدون أن المهاجرين يستحقون طريقاً إلى المواطنة بدلاً من مواجهة الترحيل الجماعي، فإن المسرح مهيئ لهجوم واسع النطاق وعنيف على العمال المهاجرين، على نطاق يجعل حتى إدارة ترامب الأولى تبدو وكأنها لعبة أطفال.
وفي حين أن ادعاءات ترامب الغوغائية بمعارضة الحرب ربما تكون قد فازت بالأصوات بعيدا عن دعاة الحرب المتأصلين في الحزب الديمقراطي، فإن ترامب نفسه هو سياسي إمبريالي لا يرحم يدعو إلى مواجهة تصعيدية مع الصين وإيران وكوريا الشمالية.
سيكون رد الديمقراطيين على فوز ترامب الانتخابي هو السعي إلى التسوية والتحالف، وهو ما ظهر بالفعل في بيان هاريس الاستسلامي بعد ظهر الأربعاء. ولم تصدر أي تحذيرات بشأن الطابع الديكتاتوري لنظام ترامب القادم وتعهدت بالتعاون في عملية الانتقال إلى الفوهرر الأمريكي المحتمل. وسوف يتحول الديمقراطيون نحو اليمين، في حين يسعون إلى صياغة اتفاق مع الجمهوريين بشأن أولويتهم المركزية، وهي تصعيد الحرب.
سوف يصبح الطابع الرجعي لبرنامج ترامب السياسي والاجتماعي واضحاً بما فيه الكفاية. وفي حين تسعى الطبقة الحاكمة إلى إعادة هيكلة الدولة، لا بد من إعادة هيكلة السياسة، على طول الخطوط الطبقية. وكما كتب رئيس هيئة التحرير الدولية لـWSWS، دافيد نورث، فإن انتخاب ترامب “هو نتيجة كارثية لرفض الحزب الديمقراطي طويل الأمد والمتعمد للغاية لأي توجه برنامجي للطبقة العاملة …
وفي الولايات المتحدة، امتزجت معاداة الماركسية الجديدة مع التقليد القديم لمناهضة الشيوعية. واختفت السياسات اليسارية، من ذلك النوع المرتبط بكفاحية الطبقة العاملة. لقد حلت المظالم المتعلقة بالهوية محل أي قلق جدي بشأن التركيز الهائل للثروة في شريحة صغيرة من المجتمع على حساب الطبقة العاملة.
يلجأ أولئك الذين روجوا لهذا الشكل من سياسات جناح اليمين، والذي روج له الحزب الديمقراطي، الآن إلى ردود الفعل الأكثر إفلاساً على الإطلاق أي إلقاء اللوم على الشعب .
في الواقع، شهد العام الماضي نمواً هائلاً للمعارضة السياسية والاجتماعية، من الاحتجاجات الجماهيرية ضد الإبادة الجماعية في غزة إلى النمو المطرد لإضرابات العمال، الذين يسعون جاهدين للتحرر من سيطرة جهاز النقابات العمالية. وثمة صراعات اجتماعية هائلة تلوح في الأفق.
يجب أن تكون هذه النضالات موجهة سياسياً، ويجب أن تسترشد بفهم أنه لا يمكن كبح الفاشية إلا من خلال تطوير حركة مستقلة للطبقة العاملة ضد مصدر الرجعية السياسية والأوليغارشية أي النظام الرأسمالي. ولا بد من 'ولادة جديدة' لسياسة اشتراكية حقيقية، مبنية على الطبقة العاملة تحركها استراتيجية دولية.
شرع حزب المساواة الاشتراكية، من خلال حملته الانتخابية الرئاسية لجوزيف كيشور وجيري وايت، في تعبئة الطبقة العاملة حول برنامج اشتراكي دولي في معارضة الحرب وعدم المساواة والنظام الرأسمالي الذي ينتجها. ويكتسب هذا البرنامج الآن أهمية أكبر. في الفترة المقبلة، سيناضل حزب المساواة الاشتراكية واللجنة الدولية للأممية الرابعة من أجل الفوز بقيادة حركة متنامية من العمال والشباب ضد الحرب والديكتاتورية وعدم المساواة ومن أجل التحول الاشتراكي للمجتمع.